المبحث الأول : أ ثرالإستشراق على العرب :
قدم الإستشراق خدمات كبيرة للغرب النصراني في خدمة أهدافه التي قام من أجلها من أهداف دينية و سياسية و اقتصادية و استعمارية و ثقافية ، و حتى عندما استغنى الغرب عن مصطلح الإستشراق ، و أنشأ أقسام دراسات الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى أو مراكز البحوث المختلفة فمازالت الأهداف القديمة موجودة ، و لكنه في الوقت نفسه أثر تأثيرات سلبية في العالم العربي خاصة المسلمين في المجالات العقادية ، و التشريعية ، و السياسية ، و الاقتصادية و الثقافية ، و فيما يأتي أبرز هذه الآثار : 1 – الآثار العقدية : من أبرز الآثار العقدية للإستشراق في العالم العربي و بالتحديد لدى المسلمين ظهور تيار من المفكرين و العلماء و السياسيين و حتى الناس العاديين أو العامة الذين نادوا بفصل الدين عن الحياة أو ما يطلق عليه العلمانية ، فالعقيدة الإسلامية تربط كل مجالات الحياة بالإيمان بالله عز و جل وبالتصور العام الذي جاء به الإسلام للخالق سبحانه وتعالى و الكون والإنسان ، فلما كانت أوربا قد وجدت الديانة النصرانية المحرفة تعيق تقدمها ونهضتها ظهر فيها التيار الذي أطلق عليه التنوير مناديا بفصل الدين عن الحياة أو قصر الدين على الشعائر التعبدية والعلاقة بين الله والإنسان ، أما شؤون الحياة الأخرى من سياسة واقتصاد واجتماع فلا علاقة للدين به ، ونظرا لأن أوربا لم تعرف النصرانية الحقيقية أوالدين الذي جاء به عيسى عليه السلام بما أحدثه بولس وغيره فيها من تحريفات،فإن ما ينطبق على أوربا لا يمكن أن ينطبق على الإسلام (1).ونهضت أوربا نهضتها بمحاربة الدين والكنيسة ، وبلغت الذروة في هذه الحـرب في الثورة الفرنسية ، وقد أثر الاستشراق في هذا المجال عن طريق البعثات العلمية التي انطلقت من العـالم العربي والإسـلامي إلى فرنسا كمـا يقول الشيخ محمـد الصـباغ " إن إفسـاد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقـق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخـلقية والفكـريةــــــــــــــ1)
نقلا عن موقع منتدى الحوار، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية ، 17 – 08-2005.والاجتماعية... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات " (1) ، فانطلقت هذه البعثات من تركيا ومصر ومن إيران ومن المغرب ، وكانت هذه البعثات تحت إشراف مستشرقين فرنسيين ، فمثلا كانت البعثة المصرية تحت إشراف جونار ، ويقول أحد المستشرقين عن البعثات الأولى أنها كانت لدراسة الهندسة والفنون الحربية ، ولكن المعلمين الفرنسيين كانوا حرصين على أن ينقلوا إلى الطلاب المسلمين الآداب الفرنسية والثقافة الفرنسية (2).وقد حرص الإستشراق والتنصير على إنشاء المدارس و الجامعات الغربية في العالم الإسلامي ، فمن ذلك الكلية الإنجيلية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية التي لها فروع في كل من القاهرة وبيروت ودبي ، بالإضافة إلى كلية فيكتوريا «مدرسة ثانوية » والكلية الأمريكية في بيروت «مدرسة ثانوية » وقد زعم كرومر CROMER
في احتفال بمدرسة فيكتوريا بأن الهدف من هذه المدرسة وشبيهاتها تنشئة أجيال من أبناء المسلمين يكونون جسرا بين الثقافة الغربية ومواطنيهم المسلمين ، ولعلها عبارة ملطفة لتكوين جيل ممسوخ لا يعرف ثقافته ولا عقيدته (3)، وقد وصف الشيخ سعيد الزاهري التلاميذ الجزائريين الذين درسوا في المدارس الفرنسية في الجزائر ، وأطلق عليها خداعا المدارس العربية ، بأنهم "لا يصلون ولا يصومون ولا يتحدثون اللغة العربية فيما بينهم، ولا يؤمنون بالقرآن الكريم وحي من الله..."(4) .__________1)محمد الصباغ ، الإبتعاث و مخاطره ، المكتب الإسلامي ، دمشق،1978،ص ص 29-30.
2)bernard lewis,the middle east versus the west ,in encounter,1963.p.p.21-29.
3) محمد محمد حسين، الإسلام و الحضارة الغربية ، ط5،مؤسسة الرسالة ،بيروت ، 1982، ص 46.4) محمد السعيد الزاهري، الإسلام في حاجة إلى دعاية و تبشير ، دار الكتب الجزائرية ، الجزائر ، د.ت، ص 108. 2- الآثار الاجتماعية :تعد الآثار الاجتماعية من أخطر الآثار التي مازال الإستشراق حريصا على تحقيقها في العالم الإسلامي ، فقد اهتم المستشرقون بدراسة المجتمعات الإسلامية ومعرفتها معرفة وثيقة حتى يمكنهم أن يؤثروا فيها بنجاح ، وأن دوافعهم لهذا تنطلق من النظرة الاستعلائية الغربية بأن المجتمعات الغربية وما ساد فيها من فلسفات ونظريات هي المجتمعات الأرقى في العالم وقد تمكن الاستعمار بالتعاون مع الاستشراق في إحداث تغيرات اجتماعية كبيرة في البلاد التي وقعت تحت الاحتلال الغربي ، ففي الجزائر مثلا حطم الاستعمار الملكيات الجماعية أو المشاعة للأرض وذلك لتمزيق شمل القبائل التي كانت تعيش في جو من الانسجام والوئام (1).وقد تعاون الإستشراق والاستعمار على إحداث النزاعات بين أبناء البلاد الإسلامية بتشجيع النزعات الانفصالية ، كما حدث في المغرب العربي أيضا بتقسيم الشعب المغربي إلى عرب وبربر ، والتركيز على فرنسة البربر وتعليمهم اللغة الفرنسية ونشر الحملات التنصيرية في ديارهم ، وقد أنشأت الحكومة الفرنسية الأكاديمية في فرنسا لتشجيع هذه النزعة .ومن الجوانب الاجتماعية التي عمل فيها الإستشراق على التأثير في المجتمعات الإسلامية من حيث البنية الاجتماعية وبناء الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية ، فقد اهتم الاستشراق بتشويه مكانة المرأة في الإسلام ، ونشر المزاعم عن اضطهاد الإسلام للمرأة وشجع الدعوات إلى التحرير المزعوم للمرأة التي ظهرت في كتابات قاسم أمين والطاهر الحداد ونوال السعداوي وهدى الشعراوي وغيرهم(2).__________1) مازن مطبقاني ، الحياة الاجتماعية في المغرب العربي بين الإستعمار و الإستشراق،المنهل ، جدة ، عدد 471، رمضان /شوال 1409هـ،ص ص 352-362.2) نقلا عن موقع منتدى التوحيد، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية ، 17-08-2005.ويرى الدكتور محمد خليفة أن موقف الإستشراق من المرأة المسلمة نابع من وقوعه "تحت تأثير وضع المرأة الغربية أنها نموذج يجب أن يحتذى به ، وإن ما حققته من مساواة وحقوق ، في نظرهم يجب أن يتسع ليشمل المرأة المسلمة والمرأة الشرقية العامة ..." ،ويضيف خليفة بأن" الإستشراق يسعى إلى تقويض وضع المرأة المسلمة داخل الأسرة على التمرد على النظام والخروج بإسم الحرية وتصوير المرأة المسلمة تصويرا مزيفا لا يعكس الحقيقة "(1).ويقوم الإستشراق الإعلامي بدور بارز في الترويج للفكر الغربي في مجال المرأة ومن ذلك الصحافة الغربية والإذاعات الموجهة ، فمن الكتب التي قدمت هيئة الإذاعة البريطانية عروضا لها كتاب « ثمن الشرف » للكاتبة البريطانية الأصل جان جو دون jan goodwin
التي تناولت فيه دراسة أوضاع المرأة في دول عربية إسلامية هي الكويت ومصر والمملكة العربية السعودية ، وقد خلطت الكاتبة فيه بين موقف الإسلام فيه من المرأة وبعض التطبيقات الخاطئة في هذه الدول ، ومن المعروف أن الإسلام حكم على أهله وليس سلوك المسلمين حجة على الإسلام (2).3- الآثار السياسية والاقتصادية : يزعم الغربيون أن الديمقراطية الغربية هي أفضل نظام توصل إليه البشر حتى الآن ، ولذلك فهم يسعون إلى أن يسود هذا النظام العالم أجمع ، ومن بين الدول التي يريدون لنظامهم أن يسودها البلاد الإسلامية ، وقد سعوا إلى هذا من خلال عدة سبل وأبرزها هو انتقاد النظام السياسي الإسلامي ، وقد ظهرت كتب كثيرة عن نظام الخلافة الإسلامي وافتروا على الخلفاء الراشدين بزعمهم أن وصول الصديق وعمر بـن الخطابإلى الخلافة كان نتيجة لمؤامرة بين الاثنين (3) ، وكتب مستشرقون آخرون زاعمـين أن النظام السياسي الإسلامي نظام قائم على الاستبداد وفرض الخضوع والمذلة على الشعوب الإسلامية (4
).__________ 1)محمد خليفة حسن ، آثار الفكر الإستشراقي في المجتمعات الإسلامة ، د.ن، القاهرة ،1997، ص 64. 2) نقلا عن موقع منتدى الحوار ، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية ، 17-08-2005.3) thomas arnold, the caliphate, lahore, 1996, p 25.
4) bernard lewis, on the quitist and activist tradition in islamic politicawriting, in bulletin, 1986, p 141.
وقد تأثرت بعض الدول العربية التي خضعت للاستعمار الغربي بالفكر السياسي الغربي بأن قامت باستيراد النظام البرلماني دون أن يتم إعداد الشعوب العربية لمثل هذه الأنظمة فكانت كما قال أحد المستشرقين "بأن العرب استوردوا برلمانات معلبة دون ورقة التعليمات "(1
).أما في المجال الاقتصادي فإن الغرب سعى إلى نشر الفكر الاقتصادي الغربي الاشتراكي والرأسمالي وذلك بمحاربة النظام الاقتصادي الإسلامي وكما يقول محمد خليفة "إن المستشرقين في سعيهم للترويج للفكر الاقتصادي الغربي قاموا بإعادة تفسير التاريخ الاقتصادي الإسلامي من وجهة نظر الرأسمالية والشيوعية كنوع من التأصيل للنظريتين وتقديمهما على أنهما لا يمثلان خروجا عن النظام الاقتصادي الإسلامي "(2
).وكان من نتائج الترويج للاشتراكية والرأسمالية في العالم الإسلامي أن انقسم العالم الإسلامي على نفسه فأصبح قسم منه يدور في الفلك الشيوعي والقسم الآخر في الفلك الرأسمالي، ولعل من طرائف المواقف الإستشراقية أن تسعى الدول الغربية إلى بث النظام الاشتراكي في بعض الدول العربية كما أشار أحد الباحثين بتدريس الاقتصاد الاشتراكي والترويج بأن التنمية الحقيقية في العالم العربي تتطلب تأميم وسائل الإنتاج ، وأن الحرية الاقتصادية الغربية لا تناسب مراحل التنمية الأولى (3
).وكان من تأثير الإستشراق أيضا تشجيع الصناعة في البلاد العربية والإسلامية دون الاستعداد الكافي لها ، وإهمال قطاع الزراعة فقد اقتنع العالم العربي بأن النهضة الحقيقية إنما تكون في الصناعة ، ولذلك أهملت الزراعة إهمالا شبه كلي ، مع أن نهضة الغرب الصناعية بدأت بالاهتمام بالزراعة ومازال الغرب يسيطر على إنتاج الحبوب والمواد الغذائية الأساسية .1) برنارد لويس، الغرب و الشرق الأوسط ،«ترجمة نبيل صبحي»، المختار ، القاهرة ، ص 79.
2) محمد خليفة حسن ، المرجع السابق ، ص 79.
3) محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، مؤسسة المدينة المنورة للنشر و التوزيع ، جدة ، 1987،ص 324.
4- الآثار الثقافية والفكرية :حقق الإستشراق نجاحا كبيرا في التأثير في الحياة الثقافية والفكرية في العالم العربي والإسلامي فبعد أن كان القرن الكريم والسنة المطهرة وتراث علماء الأمة الذين فهموا هذين المصدرين فهما جيدا وعاش المسلمون على هدي من هذه المصادر في جميع مجالات الحياة أصبحت المصادر الغربية تدخل في التكوين الفكري والثقافي لهذه الأمة سواء كانت في نظرتها لكتاب ربها سبحانه وتعالى ولسنة نبيها أو للفقه أو للعلوم الشرعية الأخرى ، أو في منهجية فهم هذه المصادر ومنهجية التعامل معها كما أثر الفكر الغربي في المجالات الفكرية الأخرى كالتاريخ أو علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الإنسان أو غيره من العلوم.وقد استطاع الإستشراق تحقيق هذا النجاح بما توفر له من السيطرة على منابر الرأي في العالم العربي والإسلامي فقد أنشأ الغرب العديد من المدارس كما أن العديد من أبناء الأمة الإسلامية تلقوا تعليمهم على أيدي المستشرقين في الجامعات الغربية ( الأوروبية والأمريكية )، ولما كانت بعض البلاد العربية والإسلامية خاضعة للاحتلال الأجنبي فقد مكن لهؤلاء الذين تعلموا في مدارسه ، فما زالت قوية فيما بين الطلبة الذين تخرجوا من كلية فيكتوريا بعد أن تسلم كثير منهم مناصب حساسة في بلادهم.وكان للإستشراق دور في مجال الأدب شعرا ونثرا وقصة ، فقد استغلت هذه الوسائل في نشر الفكر الغربي العلماني وخاصة عن طريق ما سمي «الحداثة» التي تدعوا إلى تحطيم السائد والموروث ، وتفجير اللغة والتجاوز المقدس ونقد النصوص المقدسة ، وقد استولى هؤلاء على العديد من المنابر العامة ولم يتيحوا لأحد سواهم أن يقدم وجهة نظر تخافه وإلا نعتوه بالتخلف والرجعية والتقليدية وغير ذلك من النعوت الجاهزة (1).___________1) نقلا عن موقع منتدى التوحيد ، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية ، 17 – 08-2005.وقد انتشرت في البلاد العربية الإسلامية المذاهب الفكرية الغربية في جميع مجالات الحياة في السياسة والاقتصاد ، وفي الأدب وفي الاجتماع وفي السياسة ظهر من ينادي بالديمقراطية ويحارب الإسلام وفي الاقتصاد ظهر من تبنى الفكر الشيوعي والاشتراكي وفي الأدب ظهر من نادى بالنظريات الغربية في دراسة اللغة وفي الأدب وفي النقد الأدبي ؟ وأخذ كثيرون بالنظريات الغربية في علم الاجتماع وفي التاريخ وفي علم النفس وفي علم الإنسان وغير ذلك من العلوم (1).